بـَرْبَـاطَة


من لم يزر برباطة في حياته فكأنه لم يعش يومَا

فهي المقصود لكل إنسان و الهدف و الحلمَ



نحن هنا نتحدث عن بلدة تقع في الغرب الشمالي من الجزائر، و بالتحديد على الطريق الرابط بين بلدية صبرة و بلدية مغنية المسمى بالطريق الوطني رقم 07 بولاية تلمسان، هذه البلدة صغيرة صغر أحجار الحصى المتراصة، لكنها تحمل أماني لا توزن بالذهب و لا تشترى بمال الدنيا، أماني مدت سلسلة الطموح فغرست في قلوب أبنائها الطيبين على مر العصور، مما جعلهم يجدون و يجتهدون لتحقيق آمالهم الصغيرة، و التي لا تتسع الدنيا بأيديها لحملها، لكن هذه البلدة حملتها و ربتها و صاغتها على هيئة شكل هندسي رائع قبل تسليمها لأصحابها، فبكل اختصار إنها بلدة الأماني و الأحلام، بلدة الأمن و السلام، بلدة تسرق روحك من الزمن لتطرحها في ساحة الأيام.

إنها برباطة، قرية ذات بيوت معدودة، لكن سهوبها و أراضيها لا يحدها النظر، فهي تنقسم إلى قسمين يفصل بينهما ذاك الطريق الوطني رقم 07 الذي يشبه إلى حد ما قوس قزح، لكنه ممتد على الأرض لتخترق مساراته المركبات السريعة و التي تعبر بين الفينة والأخرى فتكسر الصمت الرهيب.

صمت يقود المتأمل في هذه القرية الرائعة للوهلة الأولى إلى فهم أسرار ظلت لوقت طويل حكرا على العلماء و الحكماء من بني البشر.

و لو فرضنا أن زائرا يحط الرحال بهذه الرقعة الشريفة للمرة الأولى، لاستقبلته تلك اللافتة المنتصبة في مدخلها على جانب الطريق و التي كتب عليها " بـربـاطـة " و كأنها إحدى بطاقات تعريف المدن السياحية المرموقة، بعد هذه اللافتة الملهمة للناظر إليها و التي تلخص الكثير من الأمور، و فرضا أن هذا الزائر اتجه يسارا، فإنه سيجد ذلك الجناح الحضاري لقرية برباطة، و الذي يسمى بـ" بوست سلغان " أين تنتظم البيوت و تتشكل الشوارع في مشهد درامي يذكرنا بإحدى بلدات تكساس أو سان فرانسيسكو الأميركيتين، حيث يجد في استقباله المستشفى الصغير الذي يضم رسما دقيقا للعلم الجزائري في لوحة فنية تذكرنا بلوحات الرسامين الصقليين في ايطاليا، ثم تظهر له المدرسة الابتدائية التي تعد مصنع الأجيال الأول و التي خرّجت ايطارات في شتى الميادين، فمنها الطبيب و المهندس و البيولوجي و.... غيرهم كأحد الأمثلة التي نذكرها في هذا السياق و المتمثل في كارلوس الجيلالي المتخرج من جامعة تيارت لكنه تعلم أبجديات العلم في ابتدائية برباطة التي تشبه أكاديمية بردج النظامية بلندن، و اسمحوا لي إن قلت لكم أن ابتدائية برباطة قد تتفوق على أكاديمية بردج اللندنية في جوانب عدة، فهي تصنع الإنسان، لا آلات علمية تلهث وراء العلم مقابل المال، دون أن ننسى شجرة الكالبتوس التي تشغل إحدى زوايا هذه القرية المليئة بالأسرار و التي تدل على عمق ثقافة برباطة الحيوية، و هي تحكي للناظر إليها أو الجالس تحت ظلها حكايات كثيرة، ولكن بلغة الصمت المطبق، و هذا يجعلنا نفهم سبب عدم استيعاب الزوار لحكايات تلك الشجرة المباركة، دون أن ننسى أشجار التوت العملاقة، و أشجار الزيتون و التين .... و غيرها من النباتات المتنوعة، و التي إن تذبذب إنتاجها بعوامل طبيعية شتى، لكنها مازالت تقاوم صعوبات الحياة المختلفة.

و لو صادف هذا السائح أحد أفراد سكانها للاحظ أن الساعة توقفت في هذه القرية عن العمل، فهم لا يكترثون بمتطلبات العالم الجديد أو التكنولوجيا الحديثة، رغم براعتهم الفطرية في تلك المجالات، و حتما سيلمس هذا الزائر في كلامهم حلاوة و طيبة و رزانة تعبر عن ذكاء حاد و نباهة عز نظيرها، و خبرة بأصول العيش لا تجدها إلا في سكان برباطة المميزون حقا. هذا فقط عن جزئها الحضاري أو " بوست سلغان " كما يحلوا لأهله تسميته.

أما جزءها الثاني فإنه فعلا روضة من رياض الحدائق العجيبة، فبعد اتجاه الزوار لـ:برباطة إلى ناحية يمين لافتتها الشهيرة، فسيجدون الكثير من الجنان و الأراضي المتناثرة على حواف مسار غير معبد تجد السيارات صعوبة في السير عليه بينما هو سهل العبور بالنسبة للحمير و البغال و خيل الفرسان، و إذا ألقى هذا السائح بنظراته بعيدا باتجاه الوادي فسوف يتعرف على مناظر لا توجد إلا في برباطة و هي شبيهة إلى حد ما، بمناظر غابات العالم الكبيرة، كغابة الأمازون أو غابات أستراليا الشهيرة.

تم يواصل المشي حتى يبلغ عدة منازل تجتمع في تلة واحدة يصطلح عليها سكانها باسم " الكاريال " ، و الذي يذكر الناظر إليه بقرى سرقسطة الاسبانية، فمنازل " الكاريال " ذا طابع معماري أندلسي لن تجد مثيله إلا في اسبانيا أو البرتغال، تتخلله بعض أشجار الصنوبر العالية، و التي تزخر بأعداد هائلة من الطيور المغردة، تمتزج أصواتها بنسق معين و منظم في شكل سنفونيات، إن لم أبالغ فإنني أكاد أجزم أنها تتفوق على سنفونيات بتهوفن الألماني بكثير، و ذلك لكونها طبيعية خالصة، بعيدة عن التزييف و التحريف الإنساني.

و لو وجد هذا الزائر وقتا فإنه حتما سيتجه ناحية الوادي ليقطعه باتجاه الضفة الأخرى، أين سيجد مقبرة " سيدي عامر " و بجانبها ذلك النموذج المصغر عن غابة كاليفورنيا، و لكنها على الطريقة العربية الأصيلة، أين يخشع قلب الإنسان من شدة هول أبعاد المكان و خصائصه، و كأن هذا المشهد يقترب كثيرا من مشهد مقبرة البقيع بالمدينة المنورة، لهيبتها و هيبة موتاها الذين يرقدون بسلام. دون أن يخفى علينا منظر عيدان القصبة المنظمة في خطوط مستقيمة على حواف الوادي، و التي تتخللها عدة مناطق مكسوة بنبات التوت البريّ، و لو سرح هذا السائح بنظره في الناحية الأخرى، فسيرى أراضي أشجار الزيتون التي تأخذ أشكالا ساحرة.

بالإضافة إلى حدائق الكروم التي تكشف عن إنتاجها من العنب من بعيد، و الذي يظهر كزمرد تاج ملكة انجلترا الفاخر و لكنه يتميز عليه، لأنه من رحم الطبيعة و الذي يخفي خلف هذا الجمال مظاهر أنقى و معاني أسمى للمتدبر في خلق الله، فسبحان الله الذي جعل في الأرض بلدة أخذت من بلدات و قرى العالم النصيب الوفير، و التي أقرّ بعالميتها الغزاة الفرنسيون قبل أصحاب البلاد الحقيقيون، وهنا أقصد البرباطيون. إنها قرية برباطة بمنازلها و أراضيها و واديها وبشرها و حجرها ونباتها وحيوانها و جمالها الذي يظهر القليل من مفاتنه، مما أكسبها ميزة خاصة، جعلتها تنافس كبرى مدن العالم و قراها، و لكن بلغتها الخاصة. أين تمتزج الأصالة بالعراقة، و التي أنتجت قمة التـفرد الذي طبع وجه برباطة الجميل.

فيا لها من قرية ارتقت إلى مصاف برلين و لوس أنجلس و لندن و دبي و جاكارتا و دوربن و سيدني و موسكو و روما و كوناكري و واشنطن و بروكسل و طوكيو و ريو دي جانيرو ... و غيرها من جواهر العالم، بل و تقدمت برباطة على كل هذه المدن، لا لشيء إلا أنها قرية نادرة ندرة الذهب و الماس، قرية اختلط فيها الحاضر بالماضي فأنتج مستقبلا مستقيما، قرية أنجبت العظماء من القدماء، و مازالت تنجب الحكماء حتى وقتنا هذا.

في الأخير قد يختلف معي الكثيرين أنا مــزوار محمد سعيد، لكني أرى قرية برباطة أجمل و أشرف و أعظم و أجل من باريس و بكين و فلاديلفيا، لأنها خلدت أبناءها، لكن أبناؤها لم يخلدوها، فطبتي يا قريتي و طاب ترابكِ و هواؤكِ و كل ما فيكِ، لأنك بكل بساطة اسمكِ برباطة.